فصل: النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.النَّوْعُ الثَّالِثَ عَشَرَ: وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ:

وَرَأَيْتُ فِيهِ تَأْلِيفًا مُفْرَدًا لِابْنِ الصَّائِغِ وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا:
زِيَادَةُ التَّقْرِيرِ وَالتَّمْكِين: نَحْو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الْإِخْلَاص: 1، 2]، وَالْأَصْلُ هُوَ الصَّمَدُ. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الْإِسْرَاء: 105]، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غَافِرٍ: 61]، {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 78].
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّعْظِيم: نَحْو: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَة: 282]، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْمُجَادَلَة: 22]، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الْإِسْرَاء: 78]، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الْأَعْرَاف: 26].
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْإِهَانَةِ وَالتَّحْقِير: نَحْو: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْمُجَادَلَة: 19]، {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ} [الْإِسْرَاء: 53].
وَمِنْهَا: إِزَالَةُ اللَّبْسِ حَيْثُ يُوهِمُ الضَّمِيرُ أَنَّهُ غَيْرَ الْأَوَّل: نَحْو: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 26]، لَوْ قَالَ: (تُؤْتِيهِ) لَأَوْهَمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ. {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الْفَتْح: 6]؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: (عَلَيْهِمْ دَائِرَتُهُ) لَأَوْهَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يُوسُفَ: 76]، لَمْ يَقُلْ: (مِنْهُ) لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَخِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مُبَاشِرٌ بِطَلَبِ خُرُوجِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا فِي الْمُبَاشَرَةِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، فَأُعِيدَ لَفْظُ الظَّاهِرِ لِنَفْيِ هَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: (مِنْ وِعَائِهِ) لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْعَائِدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ اسْتَخْرَجَهَا.
وَمِنْهَا: قَصْدُ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَإِدْخَالُ الرَّوْعِ عَلَى ضَمِيرِ السَّامِعِ بِذِكْرِ الِاسْمِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: الْخَلِيفَةُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا. وَمِنْهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 58]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النَّحْل: 90].
وَمِنْهَا: قَصْدُ تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْأُمُور: وَمِنْهُ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
وَمِنْهَا: تَعْظِيمُ الْأَمْر: نَحْو: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الْعَنْكَبُوت: 19]، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [الْعَنْكَبُوت: 20]، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [الْإِنْسَان: 1، 2].
وَمِنْهَا: الِاسْتِلْذَاذُ بِذِكْرِه: وَمِنْهُ: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ} [الزُّمَر: 74]، لَمْ يَقُلْ: (مِنْهَا)، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّوَسُّلِ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى الْوَصْف: وَمِنْهُ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} بَعْدَ قَوْلِه: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [الْأَعْرَاف: 158]، لَمْ يَقُلْ: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّي) لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ هُوَ مَنْ وُصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ.
وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى عِلِّيَةِ الْحُكْم: نَحْو: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [الْبَقَرَة: 59]، {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَة: 98]، لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إِعْلَامًا بِأَنَّ مَنْ عَادَى هَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَادَاهُ لِكُفْرِهِ. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يُونُسَ: 17]، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الْأَعْرَاف: 170]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الْكَهْف: 30].
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْعُمُوم: نَحْو: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} [يُوسُفَ: 53]، لَمْ يَقُلْ: (إِنَّهَا) لِئَلَّا يُفْهَمُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا} [النِّسَاء: 151].
وَمِنْهَا: قَصْدُ الْخُصُوص: نَحْو: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الْأَحْزَاب: 50]، لَمْ يَقُلْ لَكَ تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ.
وَمِنْهَا: الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْجُمْلَةِ فِي حِكَمِ الْأَوْلَى: نَحْو: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشُّورَى: 24]، فَإِنَّ (وَيَمْحُ اللَّهُ) اسْتِئْنَافٌ لَا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ.
وَمِنْهَا: مُرَاعَاةُ الْجِنَاس: وَمِنْهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} السُّورَةَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، وَمِثْلُهُ ابْنُ الصَّائِغِ بِقَوْلِه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [الْعَلَق: 2]، ثُمَّ قَالَ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى}، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ الْجِنْسُ، وَبِالثَّانِي آدَمُ، أَوْ مَنْ يَعْلَمُ الْكِتَابَةَ، أَوْ إِدْرِيسَ. وَبِالثَّالِثِ أَبُو جَهْلٍ.
وَمِنْهَا: مُرَاعَاةُ التَّرْصِيعِ وَتَوَازُنِ الْأَلْفَاظِ فِي التَّرْكِيب: ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَة: 282].
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَحَمَّلَ ضَمِيرًا لَا بُدَّ مِنْهُ: وَمِنْهُ: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الْكَهْف: 77]، لَوْ قَالَ (اسْتَطْعَمَاهَا) لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعِمَا الْقَرْيَةَ، أَوْ: (اسْتَطْعَمَاهُمْ) فَكَذَلِكَ؛ لَأَنَّ جُمْلَةَ (اسْتَطْعَمَا) صِفَةٌ لِـ: (قَرْيَةٍ) نَكِرَةٌ، لَا لِـ: (أَهْلَ)، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِالظَّاهِرِ، كَذَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ سَأَلَهُ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ:
أَسَيِّدَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ وَمَنْ إِذَا ** بَدَا وَجْهُهُ اسْتَحْيَا لَهُ الْقَمَرَانِ

وَمَنْ كَفُّهُ يَوْمَ النَّدَى وَيَرَاعُهُ ** عَلَى طِرْسِهِ بَحْرَانِ يَلْتَقِيَانِ

وَمَنْ إِنْ دَجَتْ فِي الْمُشْكِلَاتِ مَسَائِلٌ ** جَلَاهَا بِفِكْرٍ دَائِمِ اللَّمَعَانِ

رَأَيْتُ كِتَابَ اللَّهِ أَكْبَرُ مُعْجِزٍ ** لَأَفْضَلُ مَنْ يُهْدَى بِهِ الثَّقَلَانِ

وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِعْجَازِ كَوْنُ اخْتِصَارِهِ ** بِإِيجَازِ أَلْفَاظٍ وَبَسْطِ مَعَانِ

وَلَكِنَّنِي فِي الْكَهْفِ أَبْصَرْتُ آيَةً ** بِهَا الْفِكْرُ فِي طُولِ الزَّمَانِ عَنَانِي

وَمَا هِيَ إِلَّا (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) فَقَدْ ** نَرَى اسْتَطْعَمَاهُمْ مِثْلَهُ بِبَيَانِ

فَمَا الْحِكْمَةُ الْغَرَّاءُ فِي وَضْعِ ظَاهِرٍ ** مَكَانَ ضَمِيرٍ إِنَّ ذَاكَ لَشَانِ

فَأَرْشِدْ عَلَى عَادَاتِ فَضْلِكَ حَيْرَتِي ** فَمَا لِي بِهَا عِنْدَ الْبَيَانِ يَدَانِ

تَنْبِيهٌ:
إِعَادَةُ الظَّاهِرِ بِمَعْنَاهُ أَحْسَنُ مِنْ إِعَادَتِهِ بِلَفْظِهِ، كَمَا مَرَّ فِي آيَات: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الْأَعْرَاف: 170]، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الْكَهْف: 30]، وَنَحْوِهَا.
وَمِنْهُ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَة: 105]، فَإِنَّ إِنْزَالَ الْخَيْرِ مُنَاسِبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ (اللَّهِ)؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مُنَاسِبٌ لِلْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ دَائِرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْسَعُ.
وَمِنْهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إِلَى قَوِلِه: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَام: 1]، وَإِعَادَتُهُ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى أَحْسَنُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِانْفِصَالِهَا. وَبَعْضُ الطُّولِ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضْمَارِ لِئَلَّا يَبْقَى الذِّهْنُ مُتَشَاغِلًا بِسَبَبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفُوتُهُ مَا شَرَعَ فِيهِ كَقَوْلِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الْأَنْعَام: 83]، بَعْدَ قَوْلِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الْأَنْعَام: 74].

.النَّوْعُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْإِيغَالُ:

مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِمْعَانُ:
وَهُوَ خَتْمُ الْكَلَامِ بِمَا يُفِيدُ نُكْتَةً يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهَا.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالشِّعْرِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21]، فَقَوْلُهُ: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} إِيغَالٌ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهِ؛ إِذِ الرَّسُولُ مُهْتَدٍ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي الْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ.
وَجَعَلَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ مِنْهُ: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النَّمْل: 80]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى، مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الْمَائِدَة: 50]، زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى لِمَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ لِلْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الْإِيقَانِ. {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذَّارِيَات: 23]، فَقَوْلُهُ: {مِثْلَ مَا} إِلَى آخِرِهِ.. إِيغَالٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى لِتَحْقِيقِ هَذَا الْوَعْدِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ.

.النَّوْعُ الْخَامِسَ عَشَرَ: التَّذْيِيلُ:

وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِجُمْلَةٍ عَقِبَ جُمْلَةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِتَأْكِيدِ مَنْطُوقِهِ أَوْ مَفْهُومِهِ، لِيَظْهَرَ الْمَعْنَى لِمَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَتَقَرَّرَ عِنْدَ مَنْ فَهِمَهُ، نَحْو: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سَبَإٍ: 17]، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الْإِسْرَاء: 81]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 34]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185]، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 14].

.النَّوْعُ السَّادِسَ عَشَرَ: الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ:

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامَيْنِ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ بِمَنْطُوقِهِ مَفْهُومَ الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} إِلَى قَوْلِه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النُّور: 58]، فَمَنْطُوقُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ خَاصَّةً مُقَرِّرٌ لِمَفْهُومِ رَفْعِ الْجَنَاحِ فِيمَا عَدَاهَا وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحْرِيم: 6].
قُلْتُ: وَهَذَا النَّوْعُ يُقَابِلُهُ فِي الْإِيجَازِ نَوْعُ الِاحْتِبَاكِ.

.النَّوْعُ السَّابِعَ عَشَرَ: التَّكْمِيلُ:

وَيُسَمَّى بِالِاحْتِرَاسِ؛ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي كَلَامٍ يُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْوَهْمَ، نَحْو: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْمَائِدَة: 54]، فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى {أَذِلَّةٍ} لَتُوِهِّمَ أَنَّهُ لِضَعْفِهِمْ، فَدَفَعَهُ بِقَوْلِه: {أَعِزَّةٍ}، وَمِثْلُهُ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الْفَتْح: 29]، لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَشِدَّاءَ لَتُوِهِّمَ أَنَّهُ لِغِلَظِهِمْ. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طَه: 22]، {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النَّمْل: 18]، احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نِسْبَةُ الظُّلْمِ إِلَى سُلَيْمَانَ.
وَمِثْلُهُ: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْفَتْح: 25]، وَكَذَا: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1]، فَالْجُمْلَةُ الْوُسْطَى احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ التَّكْذِيبَ مِمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: فَإِنْ قِيلَ: كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ أَفَادَ مَعْنًى جَدِيدًا، فَلَا يَكُونُ إِطْنَابًا.
قُلْنَا: هُوَ إِطْنَابٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ رَفْعِ تَوَهُّمِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ.

.النَّوْعُ الثَّامِنَ عَشَرَ: التَّتْمِيمُ:

وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي كَلَامٍ لَا يُوهِمُ غَيْرَ الْمُرَادِ بِفَضْلِهِ تُفِيدُ نُكْتَةً، كَالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الْإِنْسَان: 8]؛ أَيْ: مَعَ حُبِّ الطَّعَامِ؛ أَي: اشِتِهَائِهِ، فَإِنَّ الْإِطْعَامَ حِينَئِذٍ أَبْلَغُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا، وَمِثْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [الْبَقَرَة: 177]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ} [طَه: 112]، فَقَوْلُهُ: {وهُوَ مُؤْمِنٌ} تَتْمِيمٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.

.النَّوْعُ التَّاسِعَ عَشَرَ: الِاسْتِقْصَاءُ:

وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى فَيَسْتَقْصِيهِ، فَيَأْتِي عَوَارِضَهُ وَلَوَازِمَهُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ الذَّاتِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهُ بَعْدَهُ فِيهِ مَقَالًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 266]، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ {جَنَّةٌ} لَكَانَ كَافِيًا، فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}، فَإِنَّ مُصَابَ صَاحِبِهَا بِهَا أَعْظَمُ، ثُمَّ زَادَ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} مُتَمِّمًا لِوَصْفِهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ كَمُلَ وَصْفُهَا بَعْدَ التَّتْمِيمَيْنِ فَقَالَ: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، فَأَتَى بِكُلِّ مَا يَكُونُ فِي الْجِنَانِ لِيَشْتَدَّ الْأَسَفُ عَلَى إِفْسَادِهَا.
ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ صَاحِبِهَا: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ}، ثُمَّ اسْتَقْصَى الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُصَابِ، بِقَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِهِ بِالْكِبَر: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ}، وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى وَصَفَ الذُّرِّيَّةَ بِـ: {ضُعَفَاءُ}.
ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِئْصَالَ الْجَنَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِهَذَا الْمُصَابِ غَيْرُهَا بِالْهَلَاكِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، حَيْثُ قَالَ: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ}، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِهِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ سُرْعَةُ الْهَلَاكِ، فَقَالَ: {فِيهِ نَارٌ}، ثُمَّ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَ بِاحْتِرَاقِهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ النَّارُ ضَعِيفَةً لَا تَفِي بِاحْتِرَاقِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَنْهَارِ، وَرُطُوبَةِ الْأَشْجَارِ، فَاحْتَرَسَ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِقَوْلِه: {فَاحْتَرَقَتْ}، فَهَذَا أَحْسَنُ اسْتِقْصَاءٍ وَقَعَ فِي كَلَامٍ وَأَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِقْصَاءِ وَالتَّتْمِيمِ وَالتَّكْمِيل: أَنَّ التَّتْمِيمَ يَرِدُ عَلَى الْمَعْنَى النَّاقِصِ لِيُتَمَّمَ، وَالتَّكْمِيلُ يَرِدُ عَلَى الْمَعْنَى التَّامِّ فَيُكَمِّلُ أَوْصَافَهُ، وَالِاسْتِقْصَاءُ يَرِدُ عَلَى الْمَعْنَى التَّامِّ الْكَامِلِ فَيَسْتَقْصِي لَوَازِمَهُ وَعَوَارِضَهُ وَأَوْصَافَهُ وَأَسْبَابَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ مَا تَقَعُ الْخَوَاطِرُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَسَاغٌ.

.النَّوْعُ الْعِشْرُونَ: الِاعْتِرَاضُ:

وَسَمَّاهُ قُدَامَةُ الْتِفَاتًا، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِجُمْلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ أَوْ كَلَامَيْنِ اتَّصَلَا مَعْنًى، لِنُكْتَةِ غَيْرِ دَفْعِ الْإِيهَامِ؛ كَقَوْلِه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النَّحْل: 57]، فَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَهُ} اعْتِرَاضٌ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْبَنَاتِ، وَالشَّنَاعَةِ عَلَى جَاعِلِيهَا، وَقَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الْفَتْح: 27]. فَجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ اعْتِرَاضٌ لِلتَّبَرُّكِ.
وَمِنْ وُقُوعِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ جُمْلَةٍ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 222، 223]، فَقَوْلُهُ: {نسَاؤُكُمْ} مُتَّصِلٌ بِقَوْلِه: {فَأَتَوْهُنَّ}؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِلْحَثِّ عَلَى الطَّهَارَةِ وَتَجَنُّبِ الْأَدْبَارِ.
وَقَوْلُهُ: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} إِلَى قَوْلِه: {وَقِيلَ بُعْدًا} [هُودٍ: 44]، فِيهِ اعْتِرَاضٌ بِثَلَاثِ جُمَلٍ، وَهِيَ: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}، قَالَ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ: وَنُكْتَتُهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ أَتَى بِهِ آخِرًا لَكَانَ الظَّاهِرُ تَأَخُّرَهُ، فَبِتَوَسُّطِهِ ظَهَرَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ، ثُمَّ فِيهِ اعْتِرَاضٌ، فَإِنَّ: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} مُعْتَرِضٌ بَيْنَ {وَغِيضَ} وَ{وَاسْتَوَتْ}؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَحْصُلُ عَقِبَ الْغَيْضِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} إِلَى قَوْلِه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} [الرَّحْمَن: 46، 54]، فِيهِ اعْتِرَاضٌ بِسَبْعِ جُمَلٍ إِذَا أُعْرِبَ حَالًا مِنْهُ.
وَمِنْ وُقُوعِ اعْتِرَاضٍ فِي اعْتِرَاضٍ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الْوَاقِعَة: 75- 77]، اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ بِقَوْلِه: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} الْآيَةَ. وَبَيْنَ الْقَسَمِ وَصِفَتِهِ بِقَوْلِه: {لَوْ تَعْلَمُونَ} تَعْظِيمًا لِلْمُقْسَمِ بِهِ، وَتَحْقِيقًا لِإِجْلَالِهِ، وَإِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّ لَهُ عَظَمَةً لَا يَعْلَمُونَهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ فِي التِّبْيَانِ: وَوَجْهُ حُسْنِ الِاعْتِرَاضِ حُسْنُ الْإِفَادَةِ، مَعَ أَنَّ مَجِيئَهُ مَجِيءُ مَا لَا يُتَرَقَّبُ، فَيَكُونُ كَالْحَسَنَةِ تَأْتِيكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ.